الإمبرياليّة الثقافيّة وانعكاسها على العالم الإسلامي

شارك الموضوع :

الإمبرياليّة الثقافيّة وانعكاسها على العالم الإسلامي

على مدى عقود تعرّضت الهويّة الثقافيّة العربيّة والإسلاميّة لأزمات نتيجة تأثير الضغوط الاقتصاديّة والسياسيّة، وانتشرت حالة الاستلاب الثقافي نتيجة عدم القدرة على مجاراة تكنولوجيا وسائل الإعلام والاتّصالات الحديثة، فأصبحت المجتمعات العربيّة والإسلاميّة أكثر هشاشة وعرضة للاستعمار الفكري الذي يودي بالتراث والرصيد الروحي والمعنوي، ويحرف توجهه نحو الفكر الغربي فيقطع الأواصر الروحيّة بينه وبين ماضيه، وإن كانت الثقافة الأصيلة لا تختفي جذريًّا وفجائيًّا بسبب الاستعمار، إلّا أنّها غالبًا ما تتأثّر وتتغيّر بشكل تدريجي تحت دعوى "التكيّف" مع الظروف الجديدة، وما فاقم التهديد أنّ مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة التقليديّة مثل الأسرة والنوادي الاجتماعيّة و... لم تعد قادرة على حماية الأمن الثقافي للمجتمع في مواجهة التيّار الجارف للأفكار والمعلومات عبر الشبكات الاجتماعيّة.

وبسـبب كثافة وخطورة الاختراق الثقافي الذي يتعرّض له نسق القيم الإسلاميّة والثقافة العربيّة، برزت الحاجة إلى مواجهة الإمبرياليّة الثقافيّة الحديثة عبر شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الحديث، والتي تعتبر (بمفهوم الأمن القومي) مقدّمة لتسهيل عمليّة التحكّم بالدول وبمقدّراتها من خلال سعيها إلى فرض هيمنتها الإيديولوجيّة على شعوبها المستضعفة، لتعيد مِن خلالها إنتاج تبعيّة تلك الدول والشعوب لها، وتوجيهها لخدمة أجندتها الاستعماريّة الحديثة، حيث أنّه "إذا كان الاستعمار السياسي أو الاقتصادي أو العسكري يشكّل خطرًا كبيرًا على الأمّة، فإنَّ الاستعمار الفكري أبعد أثرًا وأشدّ خطرًا، ونجاح الأفكار التي عمل الاستعمار على نشرها بشتى الوسائل يؤثّر على شخصيّتنا كأمّة لها مميّزاتها الذاتيّة وخصائصها التاريخيّة ومقوّماتها الأخلاقيّة"[1].

تسعى الإمبرياليّة الثقافيّة بشكل مباشر إلى الإعلاء من شأن قيم شعوبها وثقافتها واحتقار قيم وثقافة الآخرين، في استمرار لنفس سياساتها العنصريّة المعهودة في عصور الاستعمار العسكري المباشر، وهي في هذا لا أنّها ترتكب أيّة إساءة للإنسانيّة، إذ إنّها حين تعمد إلى عمليّة المسخ الحضاري للشعوب المستهدفة، فهي ترى أنّه منوط بها "تحرير" هذه الشعوب من قيمها "الرجعيّة"، وبشكل عام "إنّ مفهوم الإمبرياليّة الثقافيّة اليوم يصف بشكل أفضل مجموع العمليّات التي يتمّ من خلالها جلب المجتمع إلى النظام العالمي الحديث وكيف تنجذب طبقاته المهيمنة، والضغوط، وأحيانًا ترشّح في تشكيل المؤسّسات الاجتماعيّة لتتوافق معها أو حتّى تروّج لقيم وهياكل المركز المسيطر في النظام، ووسائل الإعلام العامّة هي المثال الأوّل للمؤسّسات العاملة التي تستخدم في العمليّة الاختراقيّة للتغلغل على نطاق واسع في وسائل الإعلام. يجب أن يتمّ الاستيلاء عليها من خلال القوّة المسيطرة، وهذا يحدث إلى حدّ كبير من خلال تسويق البثّ"[2].

وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنّه من أجل إحداث التأثير المطلوب على الشعوب المستهدفة من اللازم إحداث نوع من الاضطراب النفسي والسلوكي، وخلق بيئة فكريّة ونفسيّة مضطربة كشرط لازم لتحضير الأرضيّة الضروريّة لتقبّل السلوكيّات المصمّمة مسبقًا[3]؛ وفي الخطوة الثانية ولكي تحدث هذه البرمجة يتمّ تعريض الشعوب لمواد ومعطيات ومواضيع ومعلومات مركّزة على فئات محدّدة، يتمّ هندستها وتوجيهها بدقّة عن طريق خوارزميّات الشبكات الاجتماعيّة لتؤدّي إلى حدوث آثار ومضاعفات هائلة في تشويش الأذهان لتحدث عمليّة توجيه الميول النفسيّة والذوقيّة للمتلقّي[4]؛ فإنَّ "العقل والدماغ البشري يستقبل المعطيات والمواد والوسائل الإعلاميّة [...] ليدخل منها إلى الوعي نسبة قليلة جدًا قد تقلّ عن (10%)، في حين يذهب القسم الباقي (90%) إلى اللاوعي محدثا آثارًا بطيئة عبر عمليّات التأثير والتفاعل بين اللاوعي والوعي في العقل الباطني"[5].

ما يحدث مِن محاولات سلخ الأمّة الإسلاميّة عن ماضيها، وتهميش دورها الحضاري، وإضعافها مستقبلًا تمهيدًا لتدميرها[6]، وحياكة المؤامرات، ربيبة الاستعمار الثقافي، جنود الغزو الفكري ودعاة التبعيّة الثقافيّة، فحملات دعاة التغريب المستمرّة والتي أثبتت خيبتها فيما تدعو إليه من تقدّمنا الحضاري، بل أدّت إلى تهمشينا بشكل كامل وتهشيمنا علميًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وتبعيّتنا لغربيّتهم، وهذا هو الهدف الحقيقي، ونجحت في اغترابنا في مجتمع لم نعد نألفه. "والمتأمل في واقع الوطن العربي والإسلامي في العصر الراهن يجد أنّ هناك أزمة فكريّة وثقافيّة استفحلت في جسد الأمّة وأنّ بذور الاستعمار الغربي تنامت وتغلغلت في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة. وللحدّ من تأثير الإمبرياليّة الثقافيّة يجب التوجّه لإقامة مشاريع وطنيّة نابعة من البيئة العربيّة والإسلاميّة، والاتّجاه نحو إنشاء مراكز دراسات وأبحاث في كلّ المجالات فندرس الماضي ونقيّم الحاضر ونخطّط للمستقبل من خلال ديننا وفكرنا وثقافتنا ونتميّز عن غيرنا من خلال إظهار الإسلام وجوهره وبيان جمال أحكامه وروعة مبادئه"[7].

إنَّ الثقافات الوافدة تشكّل خطرًا على الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وبخاصّة في ظلّ ضعف التحصـينات الداخليّة، إنّها تستهدف القضاء النهائي على التراث الثقـافي والمكوّن الحضاري للأمّة العربيّة الإسلاميّة، بعد أن لم يبق في مواجهة الطغيان الغربي سوى الإسلام وما يحمله مـن الضوابط والقواعد الأخلاقيّة؛ "إنّ كلّ أمّة من الأمم يرتكز وجودها وبقاؤها على دعائم متينة تقف في وجه الأعاصير فلا تميلها، وتجابه الأحداث الجسام فلا تزعزعها، تستمدّ منها عناصر بقائها ومكوّنات وجودها واستمرار بقائها، وهذه الأسس هي: الدين واللغة والتاريخ والحضارة والشخصيّة المميّزة"[8].

إنَّ نتائج الغزو الثقافي تكمن في صياغة ثقافة عالميّة لها قيمها ومعاييرها، هـي ثقافة السوق وتجاوز الثقافة النخبويّة، وسلب الخصوصيّة الثقافيّة، وقطع صلة الأجيـال الجديـدة بماضـيها وتراثهـا، وتدمير الحضارات، والتأكيد على النجاح الفردي، وتجميع الثروة، وتهميش الثقافة الوطنيّة، واحتكار الصناعة الثقافيـّة، ووضع حالة من الإبهار أمام المثقّف الوطني وإنهاء رقابة الدولة على وسائل الإعلام، والتخلّـي عـن الخصوصـيّات الوطنيّة، وإضعاف البُعد الفلسفي للتربية، وتوجيه المعرفة العلميّة بحسب القوى التي تمتلكها، والتأثير في اتّخاذ القـرار التربوي.

يستخدم الغرب كلّ وسائله الناعمة وغير الناعمة للتأثير في شعوب العالم، وخاصّة في الشرق، بهدف "جعلها تتبنّى قيمه وثقافته ومعاييره في الحكم على الأشياء، وهو من أجل ذلك يحاول التأثير على الدولة المستهدفة بكلّ أركانها، النظام والمجتمع المدني بما فيه المنظّمات غير الحكوميّة، وهو يستخدم كلّ الوسائل المؤثّرة في بناء القيم، والتي تتشكّل أساسًا من التعليم حيث تتدخّل الدول الإمبرياليّة في مناهج التعليم في البلدان الضعيفة بشكل مباشر، وتملي عليها تغيير ما لا تراه مناسبًا في تلك المناهج، ثمّ الإعلام الذي يلعب دورًا استثنائيًّا في توجيه الناس والتأثير في عقولهم وإيصالهم الصورة والخبر بالشكل الذي تريده الدول الاستعماريّة. مِن خلال هذه الوسائل تدخل الإمبرياليّة الثقافية من أجل خلخلة البنية الفكريّة للشعوب المستضعفة، وتحديد أطر لتفكيرها، وتوجيهها نحو أجندات ليس لها علاقة بالمشكلات الحقيقيّة التي تواجهها تلك الشعوب. ومن هنا نشير إلى أكثر الفئات الاجتماعيّة التي تستهدفها الإمبرياليّة الثقافيّة هم مثقّفو الشعوب المستضعفة، لما لهم مِن أهميّة في التأثير على بقيّة الطبقات والفئات الشعبيّة، ولكونهم الفئة المرشّحة لحمل مشروع الأمّة التي يمثّلوها، وكذلك للاحتكاك القائم بين هذه الفئة والغرب. فالمثقّفون هم حملة مشروع الأمّة من جهة، وهم الأقدر على وأد ذلك المشروع وإحباطه من الجهة الأخرى"[9].

إلّا أنّ “ما تحتاجه شعوب الشرق، وخاصّة شعوب العالم الإسلامي من أجل رفع حصانتها تجاه الإمبرياليّة الغربيّة الثقافيّة، هو ذلك المثقّف الذي يحمل مشروع الأمّة؛ لأنّه بذلك يعطي للشرق معناه، وهو المثقّف المسؤول الذي لديه المعرفة والإحساس بالمسؤوليّة تجاه قضايا أمّته الكبرى، وهو الذي يدعو إلى حوار لممثّلي مكوّنات الأمّة من أجل تقاربها ويبعث فيها الأمل بإمكانيّة نجاح مشروعها، وفي الوقت نفسه يعمل على عقلنة وعي الأمّة الجمعي تجاه مصيرها المشترك وضرورة تحرّرها"[10]، حيث "تسعى الإمبرياليّة الثقافيّة إلى تغيير قيم الناس وقناعاتهم بوسائل ناعمة قد تكون أشدّ إيذاءً وخبثًا، وذلك بهدف دفعهم إلى الاستسلام أمام القوّة التي لا يمكن مجاراتها في الإبداع والابتكار"[11]، "أدّت هيمنة الإعلام، فيما أدّت إليه من نتائج كارثيّة ووخيمة على دور المثقّف العربي، إلى تنحيته عن الإبداع وصياغة الفكر والثقافة والوعي الملتزمين في خدمة الشعوب العربيّة والإسلاميّة على كافّة الصعد"[12].


الهوامش


[1] موقع "الحوار اليوم": "الاستعمار الفكري وخطره على الشعوب"، تاريخ النشر (11/11/2012)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://alhiwartoday.net/node/5242

[2] موقع "بالعربيّة": "الإمبرياليّة الثقافيّة"، تاريخ النشر (30/10/2022)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://bilarabiya.net/28759.html

[3] للمزيد: راجع: ناعومي كلاين: عقيدة الصدمة.

[4] للمزيد: راجع: شادي علي: المخاطر الاستراتيجيّة للشبكات الاجتماعيّة، مجلّة جمعيّة المعارف.

[5] دلال العكيلي: "الاستعمار: المفهوم والأنواع والآثار"، موقع "شبكة النبأ المعلوماتيّة"، تاريخ النشر (19/01/2020)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://annabaa.org/arabic/reports/21907

[6] للمزيد راجع: حمزة عماد الدين موسى: "الاستعمار الثقافي، والغزو الفكري، والتبعيّة الحضاريّة"، موقع "طريق الإسلام"، تاريخ النشر (13/05/2024)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://ar.islamway.net/

[7] المصدر نفسه. (بتصرف)

[8] موقع "الحوار اليوم": "الاستعمار الفكري وخطره على الشعوب"، تاريخ النشر (11/11/2012)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://alhiwartoday.net/node/5242

[9] إياد البرغوثي: "الإمبرياليّة الثقافيّة والمثقّف والشرق"، جريدة الأخبار، تاريخ النشر (17/12/2022)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://al-akhbar.com/Opinion/351291

[10] إيّاد البرغوثي: "الإمبرياليّة الثقافيّة والمثقّف والشرق"، موقع جريدة الأخبار، تاريخ النشر (17/12/2022)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://al-akhbar.com/Opinion/351291

[11] عبد الحسين شعبان: "فيما يسمّى الإمبرياليّة الثقافيّة"، موقع جريدة الخليج، تاريخ النشر (15/02/2023)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://www.alkhaleej.ae/2023-02-15/

[12] مسعد عربيد: "في أسباب وهن الفكر السياسي العربي: استهداف الوطن العربي ودور الإعلام"، موقع مركز الدراسات والأبحاث العلمانيّة في العالم العربي، تاريخ النشر (25/11/2021)، تاريخ الاطلاع (27/08/2024)، رابط: https://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid=738907


اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز براثا للدراسات والبحوث