المولد النبويّ الشريف في تونس هذا العام.. عادات ومفاجآت

شارك الموضوع :

المولد النبويّ الشريف في تونس هذا العام.. عادات ومفاجآت


أثار ظهور المنشد والقارئ إسماعيل الحرابي، وهو يلقي نشيدًا يتضمّن آية قرآنيّة هي ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [ آل عمران: 110]، مع موسيقا مصاحبة على آلة القانون في القناة التونسيّة "الوطنيّة 2"، يوم الأحد 16-9- 2024، ردود فعل مندّدة وغضبًا واسعًا بسبب ما اعتبِر استهزاء بالقرآن واعتداء على المقدّسات، معتبرين أنَّ ما فعله هو المنكر عينه، ممّا اضطرّه للظهور في فيديو والاعتذار للعموم، قائلًا إنَّه أخطأ بسبب التعب والإرهاق، وأنّه لم يقصد الإساءة، وإنّما نسي أنّ القطعة التي أنشدها تتضمّن آية قرآنيّة. وقد علّق ناشطون بأنَّ عليه الاعتذار إلى الله أولًا والاستغفار، واعتبروا أنَّ قراءة القرآن على ألحان موسيقيّة "استهتارًا وتعدّيًا على كتاب الله"، ودعوا وزارة الشؤون الدينيّة إلى التدخّل وإيقاف الفاعلين، واصفين ما حدث بأنّه "فضيحة".

ومن جانبه استنكر الشيخ الخطيب بسّام الجوّادي ما بثّته القناة الرسميّة الثانية من "تغنٍّ بآيات الله تعالى"، وقال إنَّ ما حدث "يعتبر في الشرع من الأعمال شديدة التحريم"، مشدّدًا على أنَّ التلفزة الحكوميّة يجب أن تكون "خادمة لمصالح التونسيين ولسانًا مدافعًا عنهم، لا أن تعمل بصفة مشبوهة على المسّ مِن كرامتهم وإيذاء معتقداتهم". وطالب الجوّادي بضرورة التصدّي لمثل هذه الدعايات، التي يعملون من خلالها على زلزلة الأمان الاجتماعي للتونسيين.

ويذكر أنَّ قراءة القرآن مع موسيقا مصاحبة ليست ظاهرة جديدة، بل تعود إلى عدّة سنوات خلت حين ظهرت في مصر، وأدّى ذلك إلى تدخّل الأزهر وإصدار فتوى بتحريم التغنّي بالقرآن واستخدام الآلات الموسيقيّة أثناء تلاوة آياته.

جاءت هذه الحادثة المفاجئة في سياق الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف الذي يحييه التونسيّون كسائر المسلمين في العالم. وتقام بالمناسبة الكثير من الفعّاليات مثل زيارة بعض المقامات المنسوبة لبعض الصحابة مثل معبد بن العباس وأبو زمعة البلوي وأبو لبابة الأنصاري في القيروان وقابس، وقراءة أناشيد المدح في شخص الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله.

لكنَّ واحدة من مميّزات التونسيين وعاداتهم في احتفالهم بالمولد النبويّ الشريف هي أكلتهم الخاصّة في هذه المناسبة، وهي موروثة عن الأجداد قبل قرابة القرنين من الزمان. ويكاد التونسيّون ينفردون بهذه الأكلة التي تسمّى "عصيدة الزقوقو" في هذه المناسبة في عموم العالم العربي الإسلامي، وتستخدم في إعدادها مادّة أساسيّة، هي الحبّات التي يتمّ استخراجها من شجرة الصنوبر الحلبي، وهي أشجار تنتشر في مناطق الشمال الغربي التونسي.

ولهذه الأكلة قصّة، فقد واجه التونسيّون سنة 1864 مجاعة شديدة بسبب الجفاف، واضطرّوا لاستغلال الأشجار في الجبال، ومنها شجرة الصنوبر الحلبي واستخدام حبوبها وطحنها ثمّ إعداد عصيدة منه تسمّى عصيدة الزقوقو.

ومع امتداد الزمن صارت عصيدة الزقوقو رمزًا خاصًّا بالمولد النبويّ، لا تحضّر إلّا في هذه المناسبة، ثمّ ارتبطت بها مجموعة من الطقوس والعادات. كان الناس يُعدّون في مناسبة المولد النبوي أنواعًا أخرى من العصائد الشعبيّة التي تستخدم الدقيق المستخرج من القمح والزيت، لكنَّ العائلات اضطرّت حينها إلى اعتماد مادّة أخرى لتعويض النقص الحادّ في الحبوب، وكان الحلّ صناعة عصيدة بمادّة الصنوبر الحلبي، الشبيهة بحبّات الدرع، وهو نوع من الذرة البيضاء، بدل دقيق القمح.

وبعد تجاوز ظروف المجاعة والجفاف، انتقل استخدام الصنوبر الحلبي لإعداد عصيدة المولد من العائلات الفقيرة إلى العائلات الميسورة ممّن يسمّون "البِلْدِيّة" في العاصمة والمدن الكبرى. ولم تعُد عصيدة الزقوقو تحيل إلى المجاعة والفقر. وهكذا صار التونسيّون يعدّون هذه الأكلة دون التخلّي عن عصيدة الدقيق التقليديّة التي يستخدم فيها زيت الزيتون والعسل وأشياء أخرى.

لكنَّ بعض المؤرخين يشيرون إلى أنَّ هذه الأكلة كانت موجودة قبل تلك المجاعة، وهذا يحيل إلى الاختلاف حول منشئها، فبعض الدراسات التاريخيّة ترجع ظهورها إلى العصر الفاطمي الذي استمرّ في تونس بين 909 و973 م قبل الانتقال إلى مصر.

لكنَّ غيابها عن بقيّة الأمصار التي حكمها الفاطميّون يضعف هذه الرواية ويقوّي رواية ارتباطها بمجاعة 1864م. وثمّة مَن يُرجع أصول هذه الأكلة إلى الموريسكيين الذين دخلوا تونس بعد طردهم من إسبانيا منذ عام 1609م.

ورغم هذه الاختلافات في تحديد نشأتها، إلَّا أنّه من الثابت أنَّ أكلة عصيدة الزقوقو كانت مستعملة قبل مجاعة 1864، التي تلت ثورة علي بن غذاهم، لدى بعض العائلات، قبل أن تأخذ صيتًا واسعًا بسبب انتقالها إلى موائد العائلات الميسورة، وصار الناس يتهافتون على إعدادها لإظهار نوع من الوجاهة.

تطوّر إعداد عصيدة الزقوقو عبر الزمن من ناحية الطرق والمواد المستخدمة فيها، فإضافة إلى عجينة الزقوقو الأساسيّة بدأت تضاف إليها بعض الفواكه الجافّة مثل اللوز والبندق والفستق، حتّى انفكّت الرابطة بين هذه الأكلة والمجاعة التي أشهرَتْها بين الناس وانخرط الجميع في إعدادها رغم تكلفتها الماليّة الباهظة. ومع تدهور القدرة الشرائيّة، صارت في كثير من الأحيان خاصّة بالعائلات الميسورة، ولم يعُد فقراء الناس قادرين على إعدادها، خاصّة في هذه الأيام، حيث الارتفاع المشطّ في الأسعار. 

ما زالت ذكرى المولد النبويّ مقترنة بأكلة عصيدة الزقوقو، تمامًا كما تقترن مناسبات أخرى بأكلات مختلفة. ومِن المهمّ الإشارة إلى التفاوت بين الجهات في الاهتمام بإعداد هذه الأكلة، فمناطق الجنوب التونسي مثلًا لا تهتمّ كثيرًا بها، وما زالت تفضِّل إعداد عصيدة الدقيق الأبيض المستخرج من القمح، والاهتمام بها يتركّز في مناطق الشمال والساحل حيث تنتشر غابات الصنوبر الحلبي.

وبسبب الاهتمام بهذه الأكلة في ذكرى المولد النبويّ ارتفعت كلفة المواد المستخدمة فيها لا سيّما مادة الزقوقو نفسها، فقد أصبحت مئات العائلات تجد في هذه المادّة مورد رزق موسميًّا ظرفيًّا، من خلال جني تلك الحبّات وبيعها.

مِن المفارقات أن تنتقل أكلة ظهرت في زمن المجاعة إلى أكلة خاصّة بالأثرياء والعائلات الميسورة، الذين باتوا يبالغون في تزيينها، ممّا يشير إلى تطوّر الذائقة العامّة.

لا يوجد نظير لعصيدة الزقوقو التونسيّة في العالم العربي والإسلامي، لكنْ ربما يوجد ما يشبهها مثل "البوزة" المستخدمة في تركيا وبلاد الشام.

 


اضافةتعليق


ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز براثا للدراسات والبحوث