خطاب التعدديّة ودوره في تمرير الفكر المنحرف

شارك الموضوع :

خطاب التعدديّة ودوره في تمرير الفكر المنحرف

أ. آيات عبد الرحيم (مصر)[i]

في ظلّ الطفرة التكنولوجيّة في عصر الاتّصالات والإعلام في العصر الحديث، أصبح التمييز على أساس العرق والجنس مسألة أكثر حساسيّة وانتقادًا، وذلك بحكم انفتاح المجتمعات على الحياة الحديثة وبعدها عن القيم القبليّة ونظام الطبقات الذي زرعه الاستعمار، وأصبح احترام إنسانيّة الإنسان جزءًا من هويّة الفرد، كما يقول الإمام علي (رض): "... النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ ..."[ii]، فتواجد الفرد مع أفراد مِن جماعات وقبائل مختلفة سيساعده ذلك في التعرّف على أفكار ووجهات نظر أخرى وابتكار حلول للعديد مِن المشكلات مِن خلال "تلاقح الأفكار". وأسهمت الطفرة التكنولوجيّة في انتشار وسهولة الوصول إلى مصادر الثقافة الدينيّة، وسهّلت كذلك مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنظيم التحرّكات الشعبيّة للاحتجاج ضدّ العادات الدخيلة والثقافات الاستعماريّة.

أسهمت الطفرة التكنولوجيّة كذلك في قبول الاختلاف مع الشعوب الأخرى التي لها ثقافتها الخاصّة وعاداتها، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، فالأصل في خلق الإنسان الاختلاف والتنوّع، وفي حالة انطواء الإنسان على نفسه وعدم الاندماج مع الآخر لا يحدث التعارف، الذي يترتّب عليه الألفة والتعاون وتبادل الثقافات، وفي الوقت نفسه غربلة الثقافات الأخرى الدخيلة الشاذّة عن الفطرة السليمة، والتي تروّج وتمرّر الأفكار الشاذّة.

إحدى الثقافات الغربيّة الناتجة عن الفلسفة الليبراليّة هي اعتناق الحياد وعدم الانحياز لموقف ما أو لطرف في جميع قضايا الشأن العام، ما يؤدّي بالنهاية إلى قبول كلّ ما يتوافد على المجتمع، ولكنّ التساؤل: هل مِن الصواب التزام مبدأ الحياد وعدم الحكم على الآخر وتقبّل جميع الأفكار والمعتقدات كما هي؟ الفطرة وتعاليم الإسلام تقول بوضوح إنَّ هناك مواقف وقضايا لا تقبل الحياد، خاصّة المواقف التي تتعلّق بالدين وبالقيم والأخلاق الإنسانيّة، فلا بدّ من موقف مناصر للحقّ ومعادٍ للباطل.

أحد الأمثلة الابتلائيّة في الوقت الحالي هو قضيّة "المثليّة الجنسيّة" ""Sextual Identity فهي من السلوكيّات الشاذّة وغير المألوفة عن أفكار ومعتقدات المجتمع الذي نعيش فيه، فمن أهمّ أشكال التطرّف الفكري انحراف الفرد عن الطبيعة والفطرة الإنسانيّة وتعاليم الإسلام، ففي موضوع كالمثليّة الجنسيّة، لم نعد أمام "فعل فردي بسيط"؛ بل بتنا أمام ظاهرة مركّبة يشترك فيها الثقافي والسياسي والعلمي، بالإضافة إلى المنظور الديني، فالمثليّة تحوّلت من فعل إلى هويّة، وقد فرض هذا التحوّل تغيّرات عدّة أثّرت في تقويماتنا الأخلاقيّة لها واستدعت تطوير حجج أخلاقيّة مختلفة ملائمة لهذه التطوّرات، ونرصد عدّة أمور في التحوّل من الفعل إلى الهويّة، بمعنى أنّنا بتنا نتحدّث عن مجموعات لا عن أفعال أفراد توصف بأنّها خطأ أو انحراف يتطلّب التهذيب والإصلاح بخطاب أخلاقي يكبح مثل هذه الشهوة عن قانون الجنس البشري المراد تغييره[iii]، كما أنَّ الحديث عن تنوّع جنسي يتضمّن أقليّة تعرّف نفسها على أساس جنسي في الإجابة عن سؤال الهويّة: "مَن أنا؟" وهي الإجابة التي تقود إلى خطاب حقوقي للمنتمين إلى هذه الهويّة من مداخل، كالتنوّع، المساواة، حريّة الاختيار، يواكب ذلك تعديلات علميّة تتمّ بأجندات سياسيّة خبيثة وتفتقر إلى النزاهة.

وفي حالة "المثليّة الجنسيّة" فالحديث عن هويّة هو محاولة لإضفاء قيمة على النضال مِن أجل تحصيل لذّات وشهوات في واقع الأمر وإدراجها ضمن مفهوم الاستقلاليّة "Autonomy" الذي تسعى الأطراف النافذة من خلاله لفرض تشريعات وإعادة بناء التقويمات الأخلاقيّة لهذا الفعل بأدوات سلطويّة، وهي محاولة لرسم صورة جديدة مغايرة لما نعرفه عن الطبيعة الإنسانيّة[iv]. ومن الأفكار المتطرّفة التي يتمّ تمريرها أيضًا من منطلق "التنوّع والاختلاف" فكرة "التحوّل الجنسي"، أي تحوّل الذكر إلى أنثى والعكس بناء على رغبة الفرد بشكل صرف دون وجود عوامل تستدعي حدوث ذلك، ويتمّ ذلك باسم "الحريّة الشخصيّة" والاختلاف والانفتاح. ممّا لا شكّ فيه أنَّ هناك ما يعرف باضطراب الهويّة الجنسيّة، والتي له أسباب إكلينيكيّة، ولكنْ ما وراء هذا "النضال" ليس إلا تعزيز الفردانيّة التي تعتبر أساس المشروع الحضاري الليبرالي وتعظيم قيمة اللذّة كمحرّك إنساني ودافع وحيد للتقدّم.

وتكمن خطورة الأفكار المتطرّفة والدخيلة على عادات وتقاليد المجتمعات في استهدافها لفئة الشباب، الذين هم بطبيعة الحال ثروة المجتمع وذخيرته، وهم أكثر فئات المجتمع تأثّرًا بما هو وارد من الخارج وبسلوك الآخر، وخاصّة عندما يتزامن تبجيل وترويج هذه الثقافات الدخيلة في الأعمال الفنيّة والثقافيّة تحت غطاء خطاب التعدديّة بهدف تمرير هذه السلوكيّات الشاذّة والأفكار المتطرفة خدمة لأجندة سياسيّة.


[i] باحثة دكتوراه في الفلسفة السياسيّة – جامعة سوهاج.

[ii] المرتضى: نهج البلاغة، ج3، ص84.

[iii] معتز الخطيب: المثليّة الجنسيّة بين الاختيار والطبيعة والهويّة (2)، مركز نهوض للدراسات والبحوث، ديسمبر 2021.

[iv] المرجع السابق.

اضافةتعليق


ذات صلة

الثلاثاء 01 تشرين الاول 2024
جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز براثا للدراسات والبحوث