السيّد حسن نصر الله - ثلاث وثلاثون عامًا من الأمانة إلى الشهادة

شارك الموضوع :

السيّد حسن نصر الله - ثلاث وثلاثون عامًا من الأمانة إلى الشهادة


في شباط من العام 1992م، اغتال العدوّ الصهيونيّ الأمين العامّ لحزب الله السيّد عبّاس الموسويّ، مع زوجته وطفله، بصاروخ مباشر استهدف سيّارته العائدة من قرية «جبشيت» في جنوب لبنان، في أثناء عودته من المشاركة في إحياء الذكرى السنويّة لاستشهاد الشيخ راغب حرب. وبعد حادثة الاستشهاد بيومَين تقريبًا، أعلن حزب الله أنّه عَيَّن خليفةً للشهيد الراحل، هو السيّد حسن نصر الله. لم يكن الاسم وصاحبه معروفَيْن خارج الأوساط الحوزويّة والدينيّة.

في تلك الأيّام، كان العمل الإعلاميّ في الحزب مقتصرًا على جهد أشخاص معدودين، منهم المعنيّ بالتصوير الفوتوغرافيّ (وهو مازال حيًّا حتّى اليوم). وأدوات التصوير -يومها- كانت عبارة عن كاميرا مع أفلامها السوداء الصغيرة، وغرفة التحميض الملحقة بها. يومها، نُودِيَ المصوّر، وأُوكِلَت إليه مَهَمَّة الذهاب سريعًا إلى حيث كان السيّد حسن نصر الله موجودًا، كي يلتقط له بعض الصور، لتوزيعها على الإعلام ووكالات الأنباء المحلّيّة والخارجيّة. وبالفعل، بعد أن عاد وأفرغ أفلامه وحمّض الصور، وضع على الطاولة ما يقرب من عشرين صورة للسيّد حسن نصر الله، الذي كان يومها يلبس جبّة زرقاء، وما إن وُضِعَت الصور على الطاولة لاختيار بعضها للتوزيع الإعلاميّ، حتّى غرق الجميع في سؤال مدهش واحد: ما هذا؟! صاحب الصورة يبدو شابًّا صغيرًا! كيف سنقول للعالم إنّ هذا الشابّ النحيف، صاحب الملامح البريئة، هو الأمين العامّ الجديد للحزب؟!

لم يَبْدُ على أحدٍ من المجتمعين أنّه اقتنع بأيٍّ من الصوَر، وسرى «نقاشٌ» سريان النار في الهشيم، أنّ هذه الصور قد تسبّب السخريّة أو عدم التصديق! يبدو هذا الشخصُ يافعًا وصغيرًا، ولا ينبغي أن نستعجل. وكانت محصّلة «النقاش» أنْ نُودِيَ المصوّر من جديد، وأُمِر بمعاودة الذهاب إلى السيّد حسن ثانيةً، كي يلتقط له صورًا جديدة، يَظهر فيها أكبر في السنّ، وأكثر عمرًا، وأكثر إقناعًا للآخرين بأنّ هذا الشابّ ذا الاثنَين وثلاثين عامًا، هو القائد الجديد لمسيرة المقاومة.

وعاود المصوّر الذهاب، كرّر التقاط الصور ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وعاد بحصيلته التي لم تختلف كثيرًا عن سابقتها، فكان الكلام والقرار، أنْ هذا هو الأمين العامّ الجديد، ونَعَم، شابٌّ صغير، في الثانية والثلاثين من عمره؛ مَن أراد أن يصدّق فليصدّق، ومَن أنكر فهو حرّ.

منذ ذلك اليوم، بدأ السيّد حسن نصر الله حمل مسؤوليّة تنوء بحملها الجبال. كان لبنان بالكاد يتنفّس بعد انتهاء الحرب الأهليّة التي استمرَّت 15 عامًا، بلدًا من رُكام وفوضى، احتلال إسرائيليّ في الجنوب والبقاع، شريط محتلّ يختنق بالمعاناة والوجع، ونواة صغيرة ومتواضعة لمجتمعٍ بسيط ومتديّن، يغمره الحماس للعمل في سبيل الله، وليس في حياته إلّا كلمات «الجهاد» و«المجاهدين» و«المقاومة» و«العمليّات ضدّ إسرائيل»، وزادٌ قليل من شهداء ينيرون ظلام الواقع.

بعد عام ونصف من العام 1992م، جاء العدوان الإسرائيليّ، الذي عُرِف بحرب السبعة أيّام، في تموز1993م. كان السيّد حسن على قدر كبير من المسؤوليّة، إذ لم تستطع إسرائيل فرض قراراتها على لبنان. كان ذلك في زمن الكاتيوشيا والصواريخ المتواضعة التي أبدعَت في العام 1996م في حرب عناقيد الغضب، والتي انتهَت بمجزرة قانا وتفاهُم نيسان؛ هذا التفاهم الذي حفظ للمقاومة حقّها وقوّتها، بفضل الرؤية الثاقبة للمقاومة، بقيادة الأمين العامّ السيّد نصر الله. فعاشت المقاومة الإسلاميّة سنوات البطولة والصبر، مع تصاعد وتيرة العمليّات النوعيّة والخسائر اليوميّة لجنود الاحتلال وعملائه، وصبر الصابرين في معتقل الخيام الشهير. كلّ سنوات التسعينات آتت أُكُلَها مع حدث التحرير وهزيمة إسرائيل وهروبها من جنوب لبنان، في أيّار من العام 2000م.

بعد التحرير، سمع العالَم كلّه، لأوّل مرّة، بالمقاومة الإسلاميّة، وشاهدوا عبر الفضائيّات، رجالَها وعمليّاتهم وعودتهم إلى أرضهم بعد ربع قرن. وحينها، تهافت آلاف الإعلاميّين والمشاهير والشخصيّات للوصول إلى بيروت، للتعرّف عن قرب إلى السيّد حسن نصر الله، ولزيارة الجنوب المحرّر ومعتقل الخيام، وللوقوف على الحدود مع فلسطين، ورشق الصهاينة بالحجارة، حتّى تحوَّل رشق الصهاينة بالحجارة إلى طقسٍ يوميّ، يمارسه أهل القرى وأبناؤهم وزوّارهم، قرب «بوّابة فاطمة» على الحدود مع فلسطين المحتلّة. شخصيًّا، لا أنسى مشهد «إدوار سعيد» الآتي من جامعة كولومبيا في نيويورك، ليعاين الجنوب المحرّر، ويرمي الحجارة على الإسرائيليّين.

عُرِف ذلك الزمن البهيّ بزمن السيّد نصر الله، الذي آلم العدوّ كثيرًا، فراح يعدّ العدّة للنيل من المقاومة وقائدها، وجاءت الضربة الأولى في شباط 2005، مع اغتيال الرئيس «رفيق الحريري». يومها، وُجِّهَت التهمة في النهاية لحزب الله ورجاله، وبدأ شقّ الصفوف في المجتمع اللبنانيّ، وصولًا إلى التهمة المباشرة للمقاومة بأنّها اغتالت الحريري، وهي تهمة رفضَتها عائلة الشهيد الحريري، التي كان للسيّد حسن مكانة خاصّة ومميّزة لدى معظم أفرادها. وما زال أرشيف بعض المؤسّسات الإعلاميّة يحتفظ بالمشاهد الخاصّة لِلِقاء السيّد نصر الله مع السيّدة نازك الحريري وبعض أفراد عائلة الرئيس الحريري.

جاءت حرب تمّوز في صيف 2006م، ليسترجع السيّد حسن نصر الله أمجاد العرب والمسلمين. طافت صورُه في العالم العربيّ والغربيّ أكثر من 33 يومًا. السيّد الذي رافق المجاهدين منذ الأيّام الأولى، و«انظروا إليها تحترق في عرض البحر»، و«إلى حيفا وما بعد حيفا». احتفل السيّد بالانتصار، حضوريًّا، مع الشعب المقاوم، في شهر آب من العام نفسه، وما لبثنا نشهد تدفُّق آلاف العرب إلى ضاحية العزّ وجنوب الكرامة، ليتعرّفوا، من جديد، بنتَ جبيل ومارونَ الراس وعيتا الشعب. لكنّ انتصار 2006م والحلم الإسرائيليّ باستهداف السيّد، جعله يقصر حضوره إلى الحدّ الأدنى من الظهور، فما عاد يشارك في المناسبات الأسبوعيّة، وما عاد يزور عائلات الشهداء، وما عاد يشارك في الأمسيّات الرمضانيّة وحفلات الإفطار اليوميّة. كان الاحتجاب القسريّ ثمنًا للانتصار، لقد توفّيَت أمُّه من دون أن يستطيع المشي في جنازتها، أو المشاركة بأخذ العزاء فيها، حتّى اعتاد محبّوه، ولمدّة ثمانية عشر عامًا، على مشاركته وحضوره ولقاءاته عبر الشاشة.

كان سماحة السيّد حسن نصر الله، بما يمثّله من قيادة حكيمة ورشيدة، كابوسًا فظيعًا للحلم الإسرائيليّ، فهو الذي بشّر بزمن الانتصارات وأفول زمن الهزائم. كان فكره التوعويّ يرعب العدوّ، الذي لم يملّ من محاولات جرّه إلى ملهاةٍ هنا وملهاةٍ هناك. الحرب على سورية، ومواجهة التكفير والتكفيريّين، والفتن المذهبيّة، وصناعة داعش، ومواجهات الجرود، كلّها عناوين لاستحقاقات وتحدّيات واجهها السيّد حسن نصر الله بالصبر والتحمّل والحكمة، حتّى أشرف على بناء جيلٍ بأكمله، هو جيل السيّد حسن نصر الله، الذي نشأ وتربّى على توجيهاته وكلماته.

ذلك الرجل، الذي بدا في الصورة صغير السنّ يافعًا، غداة صار أمينًا عامًّا لحزب الله، صاحب الصورة التي ساوَرَتنا الشكوك بمدى تأثيرها في الآخرين، تحوّل طيلة ثلاثة وثلاثين عامًا، إلى رجلٍ مثخن بالمسؤوليّات، حرّك العالَم كلّه بإصبعه، أرعب إسرائيل وأميركا، ثم تمنّى الشهادة ولقاء الشهداء، فأعطاه الله ما أراد.

هنيئًا له حُسن الختام وحُسن العاقبة، وسلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم استُشهِد، ويوم يُبعَث حيًّا.

اضافةتعليق


ذات صلة

الأربعاء 30 تشرين الاول 2024
الثلاثاء 01 تشرين الاول 2024
مركز براثا للدراسات والبحوث هو مركز بحثي مستقل غير ربحي، مركزه في بيروت.
جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز براثا للدراسات والبحوث