بَيْنَ بُيُوتِ الرَّبِّ وَمَغَاوِر اللُّصُوص
عندما يقِفُ رجلُ دينٍ يتكلَّمُ بلسانِ المسيحِ فيُشَجِّعُ على اللاإنسانيةِ التي تصبُّ في صالحِ مشاريعِ الظلمِ والاضطهادِ والعدوانِ لا نستذكر إلا معاناةَ السيدِ المسيحِ (ع) منَ اليهودِ الذين اتَّخذوا من الدين ستارةً لأطماعِهم ولتجاراتِهمُ المشبوهةِ في بيوتِ الله.
لقد عُرِفَ اليهود منذ زمن بعيد بعبادة المال واستغلال البشر وعدم الإشفاق على أبناء جنسهم، ربما لأنهم يَعُدّون أنفسهم شعب الله المختار الذي يحق له أن يفعل كل المساوئ والمحرمات باسم الرب الذي أكرمهم وأرسل لهم الأنبياء والمرسلين ليعبدوه ويسبحوه ويقدسوه... فلم يزدادوا إلا عُتُوًّا وفسادا وكفرا وعبادة للأوثان...
عَبَرَ بهم موسى البحر، وأهلك الله عدوهم الذي تبِعهم أمام أعينهم، وأطبق البحر على فرعون وجنوده، وعندما وصلوا إلى الضفة الأخرى وشعروا بالأمان والخلاص من العذاب الذي عاشوه وقاسَوْه في ظلِّ حُكمٍ فِرْعونيٍّ لا يرحم، حيث الظلم الكبير والاستعباد الأليم والتقتيل للذرية... هناك... بعيدا عن المكان والزمان والآلام وبرفقة نبيهم المقدَّس عاينوا أقواما يعكفون على أصنام يعبدونها من دون الله... ونسي اليهود الرب الذي أنقذهم والنبي الذي يوجههم، فما إن رأوا الحياة المستقرة والأقوام الجدد الذين لا يعرفون الإله الحق حتى طلبوا من نبي الله موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه كغيرهم من الوثنيين...!!
وهكذا نسوا الله ورجعوا إلى طبيعتهم التي تُقَدِّس المادة، وفي سبيلها يفرِّطون بالقيم وبالمبادئ وبالإيمان وبالإنسان وبالبلدان...
هذه الصورة التي يحدثنا عنها القرآن لم تكن الصورة الوحيدة التي تظهر الطبائع التي توارثتها أمة اليهود إلى أن باتت جزءا من شخصيتها وهويتها؛ فالموطن بالنسبة إلى اليهود لا يمكن أن يكون ثابتا، وإنما هو متحرك، وحركته تنطلق بداية من المكان الذي تتحقق فيه المادة، وتنتهي حيث لا توجد المادة؛ وهم في سبيل هذه المادة الفانية يخربون بيوتهم إذا طردوا من الأرض التي آوتهم واستقبلتهم ليمحوا كل أثر يدل عليهم ويُذَكِّر الخلق بمساوئهم... ما يؤكد على أنهم في قرارة أنفسهم يحتقرون ذواتِهم وأهدافَهم الدنيئةَ التي لم يستطيعوا تغيير وُجْهتِها؛ وهم من أجل هذه الأهداف القذرة يكذبون وينافقون ويبرِّئون أنفسَهم من كلِّ رذيلة وجريمة ثم ينسبونها إلى خصومِهم وخصوصا الشرفاء منهم ليبرروا للإنسانية الأسبابَ التي حملتْهم على الاعتداء على الآخرين بذريعة الدفاع عن النفس...!!
لطالما كان المال الركيزة الأولى التي اعتمدها اليهود من أجل السيطرة على مقدرات الشعوب والبلدان واستعباد الحكومات والتجار والنافذين ورجال الدين والوعّاظ والمفتين... ليجعلوا منهم واجهة وألعوبة يتحكَّمون بها مِنْ وراءِ جُدُر، وهم في سبيل ذلك لا يبالون بالاتجار بأعراضهم بغية الوصول إلى الأهداف بأسرع وقت ممكن.
وإذا نحن رجعنا إلى تاريخ السيد المسيح وطبيعة علاقته باليهود، نجد أنه عانى من سوء أخلاقهم وشَرَهِهِم للمال وعدم إيلائهم أدنى قيمة للبشر وللقيم وللشرائع، فالمال عندهم فوق كل مكانة، وفي سبيله يبيعون المبادئ ويتاجرون بالقيم ويبيحون المحرمات بل يستبيحونها... فعندما اتخذ صرافو المال اليهود بيوت الله مقرا لهم ولتجاراتهم الاستغلالية التي تنتهز فرصة وجود أهل الفاقة والحاجة والمرض والإيمان لتنقض عليهم انقضاض الضبع القذر على الفريسة، هاجمهم بعبارات قاسية وفضح أمرهم أمام الملأ لأنهم خرجوا من عبادة الله إلى عبادة المال والمادة الوسخة محدِّدًا طبيعةَ انتمائِهم إلى معبد الشيطان ومغاور لصوصه وليس إلى معبد الرب، كما جاء في إنجيل متى: "ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل، وقَلَبَ موائِدَ الصيارفَةِ وكراسِيَّ باعةِ الحَمَامِ، وقال لهم: "مكتوبٌ: بيتي بيتُ الصلاةِ يُدعَى، وأنتم جَعَلْتُموُه مَغارَةَ لُصُوص" (متى 21: 13،12).
ولم يكتف السيد المسيح بتقريعهم وتوبيخهم، وإنما أخذ السوط وطردهم خارج الهيكل بالقوة لئلا يُدَنِّسوه باسم الرب؛ حيث جاء في الإنجيل أنه: "صنع سوطًا من حِبال، وطردَ الجميعَ منَ الهيكلِ: الغنمَ والبقرَ، وكبَّ دراهمَ الصيارفِ، وقَلَبَ موائدَهم. وقالَ لباعةِ الحمامِ: ارفعُوا هذهِ منْ هَهُنا". (يوحنا 2: 14-16).
"مكتوبٌ: بيتي بيتُ الصلاةِ يُدعَى، وأنتُمْ جعلتُمُوه مغارةَ لصوصٍ"
بهذه الكلمات خاطب السيد المسيح اليهود الذين لا يأبهون لحاجة الإنسان وفاقته، فَيُرابونَ ويَبيعونَ ويتاجرونَ بكرامةِ البشرِ باسمِ اللهِ وفي بيوتِ الله...
فبدلَ أن يقدِّسَ هؤلاءِ ربَّهم ويُعَظِّموهُ؛ إذ الهيكل والمعبد من شعائر الله؛ ما كان منهم إلا أنِ اغتنموا الفرص وجعلوا من الأماكن المقدسة مراكز تجارية تخضع للمساومات والمناقصات والمزايدات بحسب الأطماع التي تستولي على هؤلاء اليهود الأشرار... وقد أوحى الرب إلى أنبيائه أن يعلِّموا عباده كيف يعبدونه في الهيكل لا كيف يتاجرون بدينه...
أليست صورة المرابين والمتاجرين ببيوت الله وفي بيوت الله هي الصورة نفسها التي نعاينها والتي تبدو نسخة أصيلة عما يفعله الكثير من رجال الدين الذين يصطادون اليوم في الماء العكر غير آبهين للموتى والجرحى والنازحين والحرب والإبادة الجماعية التي تدور رحاها في بلادنا متعللين بأنها حرب الآخرين على أرضهم...؟!
نعم قد يتذاكون كما تذاكى المرابون فيكذبون على العباد متى حلت عليهم أموال الخونة والعملاء المجرمين الذي يريدون صك براءة لخيانتهم فئةً من فئات المجتمع التي لم تقبل بالتنازل عن مبادئها وقِيَمِها وآثرتْ حياةَ التَّنَسُّكِ والزهد في ساحات المعارك دفاعا عن الإنسان والأوطان...
إن الناس الذين يستمسكون بأهداب أخلاق الأنبياء فلا يبيعون ولا يشترون بالدين لن يحكم عليهم كهنة المعبد بغيرِ الموت لأنهم يرونهم مختلفين عنهم ثقافة وفكرا وقِيَمًا، لا بل إنهم سيفضحون كل أولئك الكهنة الذين طالما بنوا قصورهم وعاشوا الرفاهية من لحوم الناس ودمائهم؛ ولذا كان لزاما على هؤلاء الكهنة أن يحرروا الأماكن التي نزح إليها الشرفاء بطردهم منها... تماما كما حكموا على السيد المسيح بالطرد والقتل وسفك الدم...
طبعا رجال الدين هؤلاء لا يأتون على ذكر العدو الذي يحتل الأرض وينتهك حرمته ويتعمَّد قتل العشيرة أو القبيلة أو الفئة التي تتصدى لظلمه وتمسك السوط بيدها لتطرده من بلادها وأوطانها ومعابدها مقتدين بالسيد المسيح الذي طرد المتاجرين بالشريعة من المعبد... لكنهم يوجهون الناس إلى ضرورة تحرير مراكز الإيواء العامة وترك هذه الفئات المؤمنة المناضلة التي شردها العدو لتؤول لقمة سائغة يستبيح الصهاينة دماءها ويخوضون في أشلائها...
بأمرٍ مِمَّن يَتَّخِذُ كهنة المعبد مثلَ هذه القراراتِ وهم وافقونَ على منابِرِ الأنبياءِ المقدَّسين فَيَبُثُّونَ الأحقاد والكراهية ويزرعون بذور الفتنة ويشعلون نيرانها متآمرين على الأوفياء للإنسانية وللشرائع وللكرامة؟!
بهذا الصدد لا يسعني إلا أن أستذكر فئةً من رجالِ الدين والمراجع والبلدان التي وقفت إلى جانب المؤمنين وفتحت لهم أبواب الأوطان والبلدان والمدن، وأصدرت الفتاوى - لا التمنيات – التي توجب استقبال الوافدين أفضل استقبال، ولا سيما في العراق الشقيق الذي بذل علماؤه ومراجعه وشعبه الغالي والنفيس من أجل احتواء تلك البيئة الإسلامية ذات الغالبية الشيعية المؤمنة التي وقفت تساند القضية الفلسطينية والشعبَ الفلسطيني السُّنِّي بمنازلها وقُراها وأرواحها وأرواح أبنائها وعلمائها وساداتها ملتزمة الواجب الشرعي والديني الذي لم يختلف حوله علماء الإسلام قاطبة عبر العصور والدهور من وجوب نصرة إخوانهم المظلومين ورفع أذى عدوهم عنهم وعدم تركهم للمجرم الذي يهاجم أرضهم... في حين وقف الكثير من رجال الدين؛ الذين يشاركون الشعب الفلسطيني المذهب والانتماء؛ مستنكرين مستهجنين هذه المساندة الإنسانية مكتفين بالتنديد والخطابات الفارغة التي خدَّروا بها أتباعهم وشعوبهم منذ قرن ولا يزالون... مستنجدين بالأمم المتحدة – صناعة الصهيونية العالمية - التي لا تزال ساكتة عن كل المجازر الجماعية التي يندى لها جبين الإنسانية الخائنة للضمير وللوجود ولله...
فإلى أولئك الصامدين كلُّ شكر وتقدير وتعظيم واحترام حيث يقفون في الصفوف الأولى يقاومون عن أمة المليارين النائمة وأعراضها وأراضيها ووجودها بشجاعة لا نظير لها.
وإلى أولئك الذين يجاهدون في إيواء أهالي المجاهدين المشرَّدين بتواضعٍ ومحبَّةٍ وإيمانٍ وبذل وتفانٍ في داخلِ الوطنِ وخارجِهِ كلُّ شكر وتقدير واحترام...
أمَّا رجال الدين الذي يرقون منابر الأنبياء ويحرِّضون على الكراهية باسم الرب ويُسَخِّفونَ نُصْرةَ المظلومينَ ويَرْتَضُونَ بالسكوتِ أو الاحتكامِ إلى الذئابِ الضاريةِ لتقدم حُكْمًا عادلا في الشعوب المقتولة المسفوكِ دمُها منذُ عقودٍ وعقود... فلا شكرَ ولا تقديرَ ولا احترامَ... إذْ لا إيمانَ ولا مقدَّساتٍ ولا قيم ولا مبادئ ولا كرامة ولا خَلاقَ لهم حيث جعلوا من بيوت الله مراكزَ تجارية للصوصيتهم يبيعون الأوطان والبشر ثم يتباكون على أطلال القرى المهدَّمة يتهجمون على المقاومين عن أرضهم وليس على الصهاينة المعتدين الذين حدَّثوا العالمَ كلَّه عن أطماعِهم ورغبتِهم الأكيدةِ في احتلالِ البلدانِ وإقامةِ دولتِهم الكبرى على أنقاض الشعوبِ المسحوقة ولو بَعْدَ حين...
لَئِنْ خان معظم القائمين على بيوتِ الربِّ شرائعَ اللهِ، وتماهوا مع مخططات الأعداء، فليرجِعِ الناسُ إلى ضمائرهم، وليستمِدُّوا النَّخْوَةَ من المخلصين والمراجع الزاهدين الذين وقفوا على منابر أنبياء الرب يخدمون العباد بلا تَأَفُّفٍ ولا مَلَلٍ، يعلمونهم الجهاد بالمال والممتلكات وتقديم العون لأبناء المجاهدين وبيئة المقاومين وعدم التخلي عنهم، إذ التخلي عنهم ما هو إلا تخلٍّ عن الكرامة والشرف والدين الذي طالما تاجر به شياطين الإنس من الساسة الخونة وإخوانهم من رجال الدين السفلة...
اضافةتعليق