الحربُ الجارية من المنظور الفقهيّ
محمّد علي بردى([1])
مقدمة
لا يخفى أنّ هناك فرق بين الجهاد الابتدائي والدِّفاعي. فالأوّل هو فتح الأمصار لبثّ العقيدة، وهو الذي ذهب بعض الفقهاء إلى كونه مشروطاً بإذن النّبيّ (ص) أو الإمام (ع) أو نائبه الخاصّ. بينما الدِّفاع هو الذَّبُّ عن حدود الوطن الإسلاميّ. وأمّا عمليّة "طوفان الأقصى"، فهي عمليّة هجوميّة استباقيّة، إلّا أنّها في سبيل الدِّفاع، لا في سبيل الفتح وبثّ العقيدة كما هو الحال في الجهاد الابتدائيّ.
ولعلّ السّبب في اشتباه هذا الأمر على البعض -لو حصل- أنّ الكثير من النّاس قد تأثّروا بما عمل الإعلام الغربيّ على نشره من أنّ الصّراع بين الفلسطينيّين والصّهاينة إنّما بدأ في السّابع من أكتوبر من العام الماضي، في حين أنّ القضيّة الفلسطينيّة تعود في الواقع إلى بداية الاحتلال الصّهيونيّ للأراضي الفلسطينيّة. ولذا لا يصحّ فصل الحرب الجارية عن السّياق التّاريخيّ لهذا الصّراع، بل إنّ ما نمرّ به الآن ليس سوى مرحلة ضمن قضيّة دفاعيّة محضة..
الدِّفاع عن البلاد الإسلاميّة
الشّعب الفلسطينيّ إنّما يقاتل من أجل دفع الاحتلال الصّهيونيّ والذَّبِّ عن أرض من الأراضي الإسلاميّة. ولقد بيّن فقهاء الطّائفة، المتقدّمين منهم والمتأخّرين، حكم الدِّفاع عن البلاد الإسلاميّة ومجتمع المسلمين، بحيث لا يجب أن يكون هناك شبهة حول هذا الموضوع على الإطلاق. قال شيخ الطّائفة (الطّوسيّ): "إن يدهم المسلمين أمر يُخاف معه على بيضة الإسلام ويخشى بواره أو يُخاف على قوم منهم فإنّه يجب حينئذٍ دفاعهم ويقصد به الدَّفع عن النّفس والإسلام والمؤمنين، ولا يقصد الجهاد ليدخلوا في الإسلام"([2]).
وقال الشيخ (أبو الصّلاح الحلبيّ): "إن خيف على بعض بلاد الإسلام من بعض الكفّار أو المحاربين، وجب على أهل كلّ إقليم قتال من يليهم ودفعه عن دار الايمان، وعلى قطان البلاد النّائية عن مجاورة دار الكفر أو الحرب، النُّفور إلى أقرب ثغورهم، بشرط الحاجة إلى نصرتهم، حتى يحصل بكلّ ثغر من أنصار المسلمين من يقوم بجهاد العدوّ ودفعه عنه، فيسقط فرض النُّفور عن من عداهم. وليقصد المجاهد والحال هذه نصرة الإسلام والدَّفع عن دار الايمان، دون معونة المتغلِّب على البلاد من الأمر"([3]).
الدِّفاع عن الإسلام
من جهة أُخرى، فإنّ أحد أسباب وعناوين جهاد الشّعب الفلسطينيّ ضدّ الاحتلال الصّهيونيّ الغاصب هو الدِّفاع عن الإسلام وشعائره. ذلك أنّ هذا الاحتلال ما برح يهتك حرمة المسجد الأقصى وسائر مقدَّسات المسلمين في أرض فلسطين، وإنّ هدفه من ذلك هو القضاء على الإسلام بشكل كامل لأنّه المانع الوحيد من إنجاز مشروع الاستكبار التَّوسُّعي، الأمر الذي بات واضحاً لدى العالم خاصّة بعد أحداث السّنة الماضية. بل إنّ زعماء قوى الاستكبار من أمريكا إلى إسرائيل يصرّحون بأنّ تهديدهم الأوّل هو محور المقاومة بقيادة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. من هنا يعتبرون أنّه لا بُدّ من القضاء على الإسلام وإلّا فستبقى أهدافهم مهدَّدة.
وكما بالنّسبة إلى الدِّفاع عن أراضي المسلمين، فقد صرّح الفقهاء بوجوب الجهاد لحفظ الإسلام وشعائره ومقدَّساته. قال صاحب الجواهر: "لو أراد الكفّار محو الإسلام ودرس شعائره وعدم ذكر مُحمّد (ص) وشريعته فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذٍ ولو مع الجائر لكن بقصد الدَّفع عن ذلك لا إعانة سلطان الجور، بل الإجماع بقسميه عليه"([4]).
الدِّفاع لا يحتاج إلى الحاكم الشّرعيّ
على أنّ الدِّفاع أمر يقضي به العقل وتحكم به الفطرة، وهو لا يحتاج إلى إذن الحاكم الشّرعيّ. قال صاحب الجواهر: "لو بدأ العدوّ بالقتال فإن اضطرّ إلى الدّفاع، وجب وكان جهاداً واجباً من غير حاجة إلى إذن الإمام (ع)"([5]).
وقال (السيّد الخوئيّ): "التّعريض للقتل يجب في الدّفاع عن الدّين، وحفظ بيضة الإسلام، إذا هوجم من قبل الكفّار، وأرادوه بسوء، وكذا في الدِّفاع عن النّفس والعرض، ويجوز في الدّفاع عن المال، وليس شيء من تلك الموارد منوطاً بإذن الحاكم الشّرعيّ، والله العالم"([6]).
وقال (الشيخ محمّد فاضل اللّنكرانيّ): "لو هجم العدوّ على بلاد المسلمين أو ثغورها يجب عليهم الدِّفاع بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنًّفوس، ولا يُعتبر في هذا الأمر إذن الحاكم الشّرعيّ"([7]).
وقال (الشيخ محمّد جواد مغنيّة): "من المسلّمات الأوّليّة في دين الإسلام أنّ أيّ عدوّ يحاول الاعتداء على الدّين بتحريف كتاب الله أو بصدّ المسلمين عن إقامة الفرائض والشّعائر الدّينيّة أو بالاستيلاء على بلد من بلادهم، وعجز أهل هذا البلد عن صدّ العدوّ ومقاومته - وجب كفاية الجهاد والدّفاع عن كلّ مسلم: الذَّكر والأنثى والسّليم والمريض والأعمى والأعرج، من كلّ على قدر طاقته ماديًّا وأدبيًّا، ولا يتوقّف هذا الجهاد على إذن الإمام أو نائبه"([8]).
موقف مراجعنا من القضيّة الفلسطينيّة
ومع ذلك، نجد أنّ مراجعنا المعاصرين لم يتوانوا عن تبيين موقف الطّائفة من القضيّة الفلسطينيّة، وما ذلك إلّا استكمالاً للدّور الرّياديّ لمن سبقهم من زعماء الطّائفة وفقهائها، كالسَّيِّد محسن الأمين والسَّيِّد عبدالحسين شرف الدّين والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء والسَّيِّد محسن الحكيم وقائد الثّورة الإسلاميّة السَّيِّد الإمام روح الله الخمينيّ، وغيرهم.
فقد أكّد (السيّد السّيستانيّ) على وجوب الوقوف مع الشّعب الفلسطينيّ ورصّ الصّفوف وتجنيد الطّاقات في الدّفاع عنه([9])، وقد صرّح بأنّ "إنهاء مأساة هذا الشّعب الكريم - المستمرّة منذ سبعة عقود ـ بنيله لحقوقه المشروعة وإزالة الاحتلال عن أراضيه المغتصبة هو السّبيل الوحيد لإحلال الأمن والسّلام في هذه المنطقة، ومن دون ذلك فستستمر مقاومة المعتدين"([10]).
كما أكّد السيّد (القائد الخامنئيّ) أنّ "الدّعم الشّامل لأبناء الشّعب الفلسطينيّ وحمايتهم الكاملة واجب كفائيّ على جميع المسلمين. وإنّ الحكومات التي تؤنّب الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وبعض البلدان الإسلاميّة الأُخرى بسبب دعمها لفلسطين، لتحمل بنفسها عبء الدّعم والحماية على كاهلها حتى يسقط الواجب الإسلاميّ عن الآخرين، وإن لم تكن لديهم الهمّة والقدرة والشّجاعة على ذلك، فالأفضل لهم بدلاً من التّأنيب وعرقلة العمل أن يعرفوا قدر ما يتّخذه الآخرون من إجراءات نابعة من الشّعور بالمسؤوليّة والشّجاعة"([11]).
([1]) كاتب وباحث من لبنان.
([2]) محمد بن الحسن الطوسي: المبسوط، ج2، ص8.
([3]) أبو الصلاح الحلبي: الكافي في الفقه، ص.ص. 246-247.
([4]) محمدحسن النجفي [الجواهري]: جواهر الكلام، ج21، ص47.
([5]) محمدحسن النجفي [الجواهري]: جواهر الكلام، ج20، ص.ص. 140-141.
([6]) أبو القاسم الخوئي: صراط النّجاة، ج3، ص141.
([7]) محمد فاضل اللنكراني: الأحكام الواضحة، ص461.
([8]) محمد جواد مغنية: تفسير المبين، ص248.
([9]) بيان لسماحته بتاريخ 26 محرّم الحرام 1423 هـ.
([10]) بيان لسماحته بتاريخ 25 ربيع الأوّل 1445 هـ.
([11]) السيد علي الخامنئي: قضيّة فلسطين، ص340.
اضافةتعليق